من الجزائر إلى فلسطين، تتكرر ذات الخديعة، وذات الإهانة. فكما توهم “الكولونيل بن داود” أن رتبة في الجيش الفرنسي ستغير نظرة المستعمر إليه كـ”أهلي” لا أكثر، يعيش اليوم بعض الفلسطينيين في الداخل المحتل نفس الوهم، حين يظنون أن حملهم للجنسية الإسرائيلية أو العمل ضمن مؤسساتها سيجعلهم “مواطنين” متساوين. لكن الصواريخ الإيرانية الأخيرة، وما رافقها من وقائع طرد العرب من الملاجئ، جاءت لتقول بوضوح: “أنت عربي، ولو كنت في قلب تل أبيب”.
في الجزائر، دفع بعض أبناء البلد ثمناً غالياً لمحاولات الاندماج في المشروع الاستعماري الفرنسي. الكولونيل بن داود، الذي التحق بالجيش الفرنسي وارتقى في رتبته، لم يشفع له كل ولائه وخدماته، حين قرر الجنرال الفرنسي تجاهله علناً، رافضاً حتى أن يصافحه. ترك بن داود رسالة انتحار خالدة قال فيها: “العربي عربي يا لوكان.. الكولونال بن داود” – عبارة تحولت إلى مثل شعبي يجسد مرارة الخديعة والخذلان من عدو لا يرى فيك سوى دونيته المتأصلة.
وفي 2025، تكررت القصة، لكن بأسماء وملابس مختلفة. تحت القصف الإيراني، لجأ الإسرائيليون إلى الملاجئ، لكن بعضهم وقف حارساً على أبوابها، لا ليصد الصواريخ، بل ليصد “غير اليهود”. في حادثة كاشفة وقعت شمال إسرائيل، طُردت ممرضة عربية من ملجأ في منطقة الكريوت، فقط لأنها عربية. هذه الممرضة، التي أمضت حياتها في إسعاف الأرواح الإسرائيلية داخل المستشفيات، لم تجد من يسعفها لحظة الخطر. لم يشفع لها انتماؤها المهني ولا إنسانيتها، بل كان دمها العربي كافياً لطردها.
وفق الإعلامي العربي محمد مجادلة، الذي يعمل في القناة 12 الإسرائيلية، تم طردها أمام الملأ، من أناسٍ ربما كان بعضهم مرضاها. ولم تكن هذه الحادثة معزولة؛ في يافا، طُردت عائلة عربية لأن إحدى النساء كانت ترتدي الحجاب، وكأن القماش أصبح تهديداً أمنياً. هنا، سقطت كل أقنعة “الديمقراطية” و”التعايش”، وبقي المشهد مكشوفاً: في إسرائيل، الملجأ ليس للجميع، بل فقط لمن يطابق الهوية القومية التي تعترف بها الدولة.
الرسالة التي حملتها هذه الوقائع أكثر قسوة من الصواريخ: لا كفاءة الممرضة، ولا تفانيها في العمل، ولا لهجتها العبرية المتقنة، كانت شفيعة لها. لقد قيل لها – بغير كلمات – إنها دخيلة، غير مرغوب بها، حتى تحت الأرض.
لا تختلف هذه الحادثة كثيراً عن قصة بن داود، سوى أن الأولى كانت في ثكنة عسكرية فرنسية، والثانية في ملجأ مدني إسرائيلي. لكن في الحالتين، كان العربي ضحية وهمه، حين ظن أن ولاءه أو جهده أو لغته كفيلة بأن تمنحه كرامة في عين مستعمر لا يرى فيه سوى تابع يجب أن يعرف حدوده.
من طرد الممرضة، ومنع عمال تايلنديين من الاحتماء، ومن أبقى القرى البدوية بلا ملاجئ ولا حماية، إنما يجسد سياسة كاملة لا مجرد سلوك فردي. سياسة ترى أن غير اليهودي – خصوصاً العربي – هو خارج عقد المواطنة، مهما حمل من وثائق أو قدّم من خدمات.
الفرنسيون أهانوا ضباطهم العرب رغم ولائهم، والإسرائيليون يطردون ممرضة عربية من ملجأ رغم إنسانيتها. وجه واحد لعملة واحدة.
مهما تغيرت الجغرافيا، تبقى الرسالة واحدة:
“حتى لو كنت الكولونيل بن داود، أو الممرضة التي تنقذ أرواحكم… فسأبقى في نظركم فقط عربياً”.