في مقال نشره الروائي والصحفي د، كمال داود ،في مجلة لوبوان الفرنسية، بعنوان “الفرنسية خالدة لأن…”، يهاجم فيه ما يصفه بـ”الفرنسة المضادة” في الجزائر، منتقداً توجه الدولة الجزائرية نحو اللغة الإنجليزية في التعليم العالي، ومعتبراً ذلك انسلاخاً عن التاريخ، وعزلاً لما يسميه بـ”الجزائريين الفرنسيين”.
لكن من يقرأ المقال دون خلفية سياسية أو وعي بتاريخ العلاقة الجزائرية-الفرنسية، قد ينخدع بأسلوب داود الأدبي، ويتغاضى عن أمر بالغ الخطورة: داود لا يدافع عن اللغة الفرنسية، بل يهاجم السيادة الجزائرية وحقها في إعادة تشكيل هويتها اللغوية بعد عقود من الاستعمار الثقافي.
اللغة كقناع إيديولوجي
لغة داود ليست بريئة، فهي ليست مجرد حنين إلى الفرنسية، بل تعبير عن انتماء ثقافي نخبوي معزول يرى في الفرانكوفونية انتماءً حضارياً بديلاً عن الهوية الوطنية. وهو ما جعل العديد من الجزائريين يصنفونه ضمن ما يُعرف بـ”أذيال الاستعمار”، وهم فئة من الكتّاب والمثقفين الذين لا يرون مستقبل الجزائر خارج عباءة فرنسا، ويدافعون عن بقاء اللغة الفرنسية ليس كلغة علم، بل كهوية، وكعلاقة عضوية مع المستعمر السابق.
قراءة انتقائية للواقع
يتجاهل كمال داود بذكاءٍ مغلّف أن اللغة الفرنسية ليست مجرد أداة تواصل، بل إرث استعماري فُرض على الجزائريين بالسيف والنار، وحُرِّمت عليهم لغتهم العربية طيلة 132 سنة من الاحتلال.
واليوم، حين تتخذ الجزائر قراراً استراتيجياً بتحرير منظومتها التربوية من بقايا الهيمنة الثقافية الفرنسية، يصوّرها داود كجريمة ضد الذاكرة، لا بل “إظلاماً للعقول” على حدّ تعبيره.
والسؤال: من الذي يظلم العقول؟ الدولة التي تسعى للانفتاح على اللغة العالمية الأولى في البحث العلمي والتكنولوجيا؟ أم من يصرّ على حصر الجزائر في تابعة لغوية لفرنسا في زمن ما بعد الاستعمار؟
ازدواجية في الخطاب الوطني
يتحدث داود عن “الجزائريين في فرنسا”، الذين يشعرون بالضياع بسبب تخلي الجزائر عن الفرنسية. لكنه لا يجرؤ على نقد فرنسا نفسها، التي تمارس إقصاءً ممنهجًا ضد الجزائريين، وترفض الاعتراف بجرائم استعمارها، وتبني خطاباً رسمياً عدائياً تجاه الجزائر، كما تفعل حكومة ماكرون ووزراؤه.
إن التناقض في مقال داود واضح: يطالب بالولاء من الجزائريين في فرنسا، لكنه يرفض أن يكون هذا الولاء للجزائر الجديدة، ذات السيادة اللغوية والثقافية، بل يريدهم تابعين لماضٍ لم يلد سوى الخراب.
داود وأزمة النخبة الفرانكوفونية
كمال داود ليس سوى واحد من رموز النخبة الفرانكوفونية في الجزائر التي تعيش حالة ارتباك عميق بعد تراجع تأثير اللغة الفرنسية في الجيل الجديد. هذه النخبة، التي طالما احتكرت المنابر الثقافية عبر فرنسا ومؤسساتها، ترى أن تقهقر الفرنسية هو تهديد لامتيازها الطبقي والثقافي، وليس فقط خسارة أداة تواصل.
لكن الجزائر اليوم تقف على عتبة تحول. جيل جديد يكتب بلغته، يتواصل بالعربية أو الإنجليزية، ويفكر في المستقبل لا في حنينٍ إلى لغةٍ ارتبطت بالاستعمار.
ليس غريباً أن يكتب كمال داود في جريدة فرنسية مقالة تهاجم خيارات بلاده اللغوية والتعليمية، لكن الغريب أن يستمر في ادعاء الموضوعية الثقافية وهو يمارس أعتى أشكال الإقصاء للهوية الوطنية، عبر خطاب مموّه يخدم بقايا الاستعمار الثقافي في الجزائر.
محمد الطيب