في لحظات تُختزل فيها المأساة بكلمات، تبدو رفح ـ المدينة التي لطالما كانت ملاذًا للفارين من الموت شمالًا ـ وكأنها الآن تقف على حافة المصير. لم تعد رفح “ملجأ” كما ظنّ كثيرون، بل غٓدت، كما تتكشف الوقائع تباعًا، المرحلة الأخيرة من خطة مرسومة بدقة، تنهي الحكاية الفلسطينية في غزة، لا من خلال الحرب فقط، بل عبر التهجير المنهجي.
اليوم، لم يعد الأمر سرًا. الإعلام العبري، وتحديدًا القناة 12 الإسرائيلية، كشف أن العملية العسكرية الجارية في رفح ليست فقط لـ”إخضاع حماس”، بل هي خطوة محورية في تنفيذ خطة تهدف إلى إحداث “هزة سكانية” شاملة، عبر دفع الفلسطينيين قسرًا نحو الجنوب، وتجميعهم في منطقة ضيقة قرب الحدود المصرية، تحت مسمى “المنطقة الإنسانية”.
ما يجري لا ينفصل عن التصور الذي سبق أن طرحه دونالد ترامب في “صفقة القرن”، حين اقترح توطين فلسطينيي غزة خارج القطاع، في دول الجوار كالأردن ومصر. آنذاك، عُرض الأمر كـ”خيار طوعي”، أما اليوم، فها هو يتحوّل إلى قدر محتوم، بعد أن استُأنفت آلة الإبادة بكل عنفها، وجُرّد السكان من كل مقومات الحياة والصمود.
في تصريح أخير، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نية حكومته إنشاء “ممر أمني جديد يقطع غزة من الشمال إلى الجنوب”، وهو إعلان يتجاوز البعد العسكري، ليرسم حدودًا جغرافية جديدة، ويعزز واقعًا قسريًا عنوانه: “غزة بلا سكان”. (تصريحات نتنياهو نقلتها عدة مصادر منها PBS الأميركية بتاريخ 3 أفريل 2025).
أما التفاصيل الدقيقة للخطة، والتي تسرّبت عبر الإعلام العبري والغربي، فتشير إلى ما يلي:
اجتياح بري واسع النطاق، هو الأكبر في تاريخ القطاع، يستهدف ليس فقط فصائل المقاومة، بل أيضًا البنية السكانية والاجتماعية.
دفع السكان إلى رفح بالقوة، ومنع عودتهم إلى ديارهم المدمرة.
تحويل رفح إلى سجن مفتوح، تحت رقابة أمنية مشددة، مع توزيع الإغاثة فقط لمن يلتزم بخريطة النزوح الجديدة.
في نهاية هذا المسار، يُعرض “الخروج الطوعي” كطوق نجاة من جحيم محكم الإغلاق.
تؤكد هذه المعطيات تقارير من منظمات حقوقية على غرار هيومن رايتس ووتش، التي وثّقت في تقرير صدر في نوفمبر 2024، أن إسرائيل تنفذ عمليات “نقل قسري” للفلسطينيين في غزة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
وفي تقرير لوكالة رويترز، بتاريخ 3 أفريل 2025، كُشف أن الجيش الإسرائيلي بدأ فعليًا بإنشاء “منطقة أمنية جديدة” جنوب القطاع، بعد السيطرة على أجزاء واسعة من رفح، مما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من السكان نحو نقطة مغلقة تمامًا.
رفح اليوم ليست نهاية الجغرافيا، بل بداية النهاية المخطط لها. هي المرحلة التي ستُقدَّم فيها الهجرة على أنها النجاة، لا لأنها كذلك، بل لأن الموت سيكون البديل. في هذه الزاوية المظلمة، تصبح المفاوضات على الرهائن، والحديث عن تهدئة، مجرّد غطاء لتمرير ما هو أخطر: تغيير ديمغرافي جذري يُراد فرضه بالقوة.
والمؤلم أن كل هذا يتم وسط صمت رسمي عربي ودولي، وأحيانًا بمباركة ضمنية تحت غطاء “التفاهمات الإنسانية”. من لا يرفع صوته اليوم، من يصرف الأنظار عن هذه الجريمة، هو جزء من أدوات تنفيذها.
رفح ليست ملجأ. رفح هي الخاتمة.
ومن يبقى على قيد الحياة… سيكتب الرواية، إن كُتب لها أن تُروى.
محمد لمين مغنين