في قلب الجزائر العاصمة، تقف القصبة شامخة، حاملة في طياتها تاريخًا ضاربًا في القدم، يشهد على محطات عديدة من مجد المدينة وتحولاتها عبر العصور. ليست القصبة مجرد مجموعة من الأزقة الضيقة والمنازل المتراصة، بل هي سجل حي للأحداث التي مرت بها الجزائر، ومرآة تعكس أصالة سكانها الذين حافظوا على إرثها رغم التحديات التي واجهتها. إنها تحفة معمارية وإنسانية تجسد عبقرية الأمازيغ، الذين وضعوا حجر الأساس لهذه المدينة العريقة، وشيدوا عمرانها الفريد الذي ظل صامدًا رغم تعاقب الأزمان.
نشأت القصبة على أنقاض مدينة “إيكوزيوم”، التي بناها الأمازيغ في مرحلة مبكرة من التاريخ، قبل أن تزدهر لاحقًا تحت حكم الزيريين الذين أطلقوا عليها اسم “آث مزغنة”، نسبة إلى القبيلة الأمازيغية التي سكنتها. خلال العهد العثماني، تحولت القصبة إلى قلعة منيعة تحرس السواحل الجزائرية من الأطماع الأوروبية، إذ أُقيمت بها القلاع والحصون والمساجد والمدارس، مما جعلها مركزًا للحكم والتجارة والثقافة. وشهدت أوج ازدهارها خلال هذه الحقبة، حيث كانت تزخر بالقصور الفخمة التي بناها حكام الجزائر وكبار مسؤولي الدولة، مثل قصر الداي الذي شكل مقر الحكم، وقصر الرياس الذي كان خاصًا بقادة البحرية العثمانية، ودار خداوج العمياء التي تحمل بين جدرانها قصة ابنة أحد الدايات التي فقدت بصرها. كما زخرت المدينة بعدد كبير من المساجد التي تعكس روعة العمارة الإسلامية، ومن أبرزها جامع كتشاوة، والجامع الكبير، وجامع الجديد، التي تتميز بمزيج فريد من التأثيرات العثمانية والأندلسية.
مع سقوط الحكم العثماني وبداية الاحتلال الفرنسي، دخلت القصبة مرحلة جديدة من التحديات، حيث تعرضت أجزاء كبيرة منها للهدم ضمن محاولات الفرنسيين لتغيير معالمها وطمس هويتها. لكن رغم محاولات الطمس، بقيت القصبة صامدة، وتحولت إلى حصن منيع للثوار الجزائريين خلال الثورة التحريرية. كانت أزقتها الضيقة وساحاتها الصغيرة مسرحًا لعمليات مقاومة بطولية، إذ لجأ إليها المجاهدون واتخذوا من بيوتها القديمة ومخابئها السرية قواعد لانطلاق هجماتهم ضد الاحتلال. ومن بين الأسماء التي ارتبطت بكفاح القصبة نجد جميلة بوحيرد، جميلة بوباشة، حسيبة بن بوعلي، علي لابوانت، أحمد زبانة، وغيرهم ممن خلدوا أسماءهم في سجل النضال الجزائري.
بعد الاستقلال، أُدرجت القصبة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 1992، نظرًا لقيمتها التاريخية والثقافية، ومنذ ذلك الحين، بدأت الجهود للحفاظ عليها وترميم معالمها المهددة بالاندثار. ورغم المشاريع التي أُطلقت لإعادة تأهيلها، إلا أن التحديات لا تزال قائمة، حيث تعاني المدينة القديمة من التوسع العمراني العشوائي، وتآكل المباني بسبب الزمن والكوارث الطبيعية، إلى جانب فقدان الكثير من معالمها بسبب سياسات التجديد التي انتهجها المستعمر الفرنسي. ومع ذلك، لا تزال الدولة الجزائرية تعمل على استعادة مجد القصبة، إذ أُطلقت مشاريع ترميم واسعة من المتوقع أن تنتهي بحلول عام 2026، تنفيذًا لتوجيهات رئيس الجمهورية، الذي يولي اهتمامًا خاصًا بهذا الإرث العريق.
ورغم أن القصبة اليوم قد تغيرت كثيرًا، إلا أن روحها القديمة لا تزال حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية لسكانها، الذين ظلوا أوفياء لعادات وتقاليد توارثوها عبر الأجيال. يتجلى ذلك في أسلوب عيشهم، وفي الصناعات التقليدية التي لا تزال تزدهر بين جدران المدينة القديمة، حيث يعمل الحرفيون في مجالات مثل النحاس والخشب والخزف، محافظين على تقنيات يدوية توارثوها منذ قرون.
يتجسد التراث الثقافي لسكان القصبة في مناسباتهم الاجتماعية واحتفالاتهم التي تعكس عمق الهوية الجزائرية. فحفلات الأعراس في القصبة لا تزال تحافظ على طابعها التقليدي، حيث يتم التحضير لها بعناية فائقة، بدءًا من “ليلة الحنة” التي تزين فيها العروس يديها بنقوش الحناء وسط أجواء غناء ورقص على أنغام الشعبي العريق. وفي يوم الزفاف، تتزين العروس بالقفطان أو الكاراكو المطرز بالخيوط الذهبية، بينما يرافقها موكب من النسوة اللواتي يرددن الأغاني التراثية، مثل “يا بنت السلطان” و”يا رايحين للجزاير”. كما أن المطبخ القصباوي يتميز بأطباقه الخاصة، مثل “رشتة”، و”طاجين الزيتون”، و”بطاطا فليو”، وهي أطباق تحضر بنفس الطرق التي كانت تستخدمها الجدات منذ مئات السنين.
أما في المناسبات الدينية، فتتحول القصبة إلى فسيفساء من الطقوس الروحانية، حيث تُزين المساجد وتُقام حلقات الذكر والإنشاد، لا سيما في الزوايا التي ظلت تلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على الطابع الديني والثقافي للمدينة. ومن أشهر الزوايا التي لا تزال قائمة، زاوية سيدي عبد الرحمن الثعالبي، التي تعد مزارًا روحيًا هامًا يقصده الزوار من مختلف أنحاء الجزائر.
لم تكن القصبة مصدر إلهام للمؤرخين فقط، بل ألهمت أيضًا الأدباء والشعراء والفنانين الذين وجدوا فيها روح الجزائر الحقيقية. فقد كتب عنها محمد ديب في رواياته، بينما تغنى بجمالها أشهر مطربي الشعبي، مثل محمد العنقى والحاج مريزق، الذين خلدوا عشقهم للمدينة في أغانيهم.
إن القصبة ليست مجرد إرث معماري، بل هي رمز للهوية الجزائرية، وذاكرة حية تحفظ تاريخ البلد من خلال جدرانها التي رأت الكثير، وأزقتها التي شهدت كل مراحل التحول. إنها ليست مجرد مكان، بل إحساس بالانتماء، وملحمة تاريخية تروي حكاية شعب لم يرضَ يومًا بالاستسلام، فكانت القصبة شاهدة على مقاومته، ومرآة لعراقته، لتبقى دائمًا في وجدان الجزائريين، ولتظل منارة للأجيال القادمة.
عمراني ضحى