هذا الأسبوع تكون قد مرّت ستّون سنة على مؤتمر الصومام 20 أوت 1956، ويبدو أن الخطاب الرسمي يتجاهل ذلك محاولا حصر المناسبة في زاوية ضيقة من التاريخ تمهيدا لإلحاقها بقائمة الطابوهات المتسعة كل سنة. لقد فجّر مؤتمر الصومام حرب الزعامات داخل صفوف الثورة وهي الحرب التي بقيت تنخر الدولة المستقلة فيما بعد إلى يومنا هذا.. بالتأمّل في تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية وبعده تاريخ الثورة التحريرية ثمّ تاريخ الدولة المستقلّة، يمكن بسهولة ملاحظة خيط آخر من الأزمة البنيوية التي لازمت تشكّل الأمّة الجزائرية يتعلّق بظاهرة الزعامات. فرغم ما يكرره الخطاب الرسمي بأن “الشعب” هو البطل الوحيد، فإن الحقيقة الداخلية لتاريخ هذا التشكّل تكشف عن صراعات طاحنة ونزاعات حول الزعامة غالبا ما انتهت بالتصفيات الجسدية. لا يزال التدافع حول فانتازم الزعامة يفسر السلوك السياسي للسلطة إلى غاية اليوم. في سنة 1949 انفجرت أزمة بين زعماء الحركة الوطنية عصفت بحزب الشّعب، حين ظهر منافسون لزعيم الحركة وحزب الشعب، مصّالي الحاج. فرغم أن التنافس والصراع يعود إلى فترة أقدم، خاصّة بين هذا الأخير وفرحات عبّاس، وكذلك البشير الإبراهيمي، لكنّ أزمة حزب الشعب وانقسامه أفرز زعماء آخرين مثل حسين آيت أحمد، وأحمد بن بلّة، ومحمّد بوضياف. وفي سنة 1956 أيضا انفجرت أزمة زعامة حول “مؤتمر الصومام” أدّت إلى اغتيال زعيم المؤتمر “عبّان رمضان”، وعشية الاستقلال أيضا، ظهر زعماء جدد من جيش الحدود استولوا على السلطة، وقاموا بنفي أو سجن كل زعماء الثورة السابقين، وهكذا في كلّ عملية “تسليم للسلطة” لا بد أن يظهر زعيم، حقيقي أو مزيّف، يفرض نفسه بالقوّة أو الخداع. كما أن الزعماء المحليين الصغار فهموا منذ البدء أن الطريقة الوحيدة للظهور كزعماء حقيقيين هي القضاء على الزعماء الكبار من آباء الحرب التحريرية، ولهذا توالت التصفيات، الجسدية والرمزية، سواء خلال الحرب، أو بعدها. وبالعودة إلى عشية الاستقلال دوما، نجد مثلا أن الليبرالي فرحات عبّاس، الذي كان صوتا ديمقراطيا قويا، على استعداد لتقبّل النهج الاشتراكي الذي اتفقت حوله معظم قيادات الثورة، ومع ذلك تمّ الانقلاب عليه وتنحيته في خضم التدافع الشرس حول الزعامة. لقد استولت على الحكم عصبة عسكرية مجهولة لدى “الشّعب” سرعان ما توالى أفرادها تباعا على الرئاسة، (خاصة بن بلّة، بومدين، الشاذلي بن جديد وبوتفليقة).. والنتيجة هي تحييد وتهميش الزعماء التاريخين المعروفين، أمثال بوضياف وفرحات عباس ومصالي وآيت احمد..، وهؤلاء الزعماء هم من كان يؤمل منهم إقامة نظام ديمقراطي يخفف من تأثير الزعامة في الحكم. إننا إذن أمام مفارقة تاريخية عجيبة: ففي الوقت الذي كان يؤمل فيه أن يتولّى السلطة زعماء حقيقيون لإقامة نظام مؤسسات لا يحتاج إلى زعماء، استولى على السلطة رجال عاديون لكي يصنعوا لأنفسهم زعامات على حساب مفهوم الدولة الحديثة ومؤسساتها. الزعامة ثقافة وبنية ذهنية أكثر من كونها هوساً فردياً بالبطولة، ثقافة سابقة على مفهوم المؤسسة والقانون الذي يميّز الدولة الحديثة، ثقافة إقطاعية تعتبر الزعيم مُخلّصا، يحمل العصا السحرية لحل كل مشاكل الحياة، وليس مجرّد مسيّر أو رجل دولة. وهي ثقافة يمكن تفسيرها، أنثروبولوجيا بالذكورية وقِوامة الرّجل في كل شأن، عام أو خاص، كما تُفَسَّر اقتصاديا باختفاء مفهوم العمل الذي ظهر في المجتمعات الصناعية. إن روح الاتكال والكسل وانتظار المعجزات في حل مشكلات الحياة هو من ينتج الزعيم الذي سرعان ما يتحول إلى طاغية مستبد. لهذا نجد أن الزعامات تختفي في المجتمعات الصناعية ويحل محلها رجال التسيير التقني والإداري لمشاكل المجتمع، الصناعة كما يقول “ماكس فيبر” هي أساس الديموقراطية، والديمقراطية أيضا أساس المجتمعات الصناعية.
بقلم اسماعيل مهنانة