بقلم: عبدالصمد تيطراوي
في وقت تتسابق فيه دول العالم لبناء مراكز بيانات عملاقة تدير تطبيقات الذكاء الاصطناعي (AI)، تواجه البشرية تحديا غير مسبوق في توفير طاقة نظيفة ومستدامة لهذه البنى التحتية الرقمية الضخمة.
الجزائر اليوم، بما تمتلكه من ثروات شمسية هائلة ومساحات صحراوية شاسعة، تقف اليوم على عتبة فرصة استراتيجية لتكون دولة نموذجية في ربط الذكاء الاصطناعي بمصدر الطاقة الأنظف: الشمس.
إمكانات إشعاعية فائقة في قلب الصحراء
تشير دراسة منشورة في مجلة Renewable and Sustainable Energy Reviews إلى أن معدل الإشعاع الشمسي في الجزائر يتراوح بين 1700 و2650 كيلواط/ساعة/م² سنويًا، مما يضعها ضمن الدول الأكثر تعرضًا لأشعة الشمس عالميًا، لا سيما في ولايات الجنوب مثل أدرار، تمنراست وغرداية (Boudghene Stambouli et al., 2012). وتؤكد بيانات الوكالة الفضائية الجزائرية أن بعض مناطق الصحراء تسجّل أكثر من 3900 ساعة سطوع شمسي سنويًا، وهي ظروف مثالية لتشغيل أنظمة كهروضوئية (Photovoltaic Systems) بكفاءة عالية وعلى مدار السنة.
الذكاء الاصطناعي كمستهلك شره للطاقة
وفق دراسة نشرتها جامعة ماساتشوستس (Strubell et al., 2019)، فإن تدريب نموذج واحد من نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة قد يستهلك طاقة تنتج ما يعادل 284 طنًا من ثاني أكسيد الكربون. وتشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة (IEA) إلى أن مراكز البيانات قد تستهلك أكثر من 3,000 تيراواط/ساعة بحلول 2030، وهو رقم يتجاوز استهلاك دول كبرى كألمانيا. وبناءً عليه، فإن الجزائر، بما تملكه من قدرة نظرية تتجاوز 5 ملايين تيراواط/ساعة سنويًا (وزارة الطاقة الجزائرية، 2023)، تملك الإمكانية لتغذية مراكز بيانات ضخمة للذكاء الاصطناعي تعتمد بالكامل على الطاقة الشمسية المحلية.
الكفاءة التقنية والمواد الأولية: فرصة صناعية نادرة
أظهرت دراسة تطبيقية نشرت في International Journal of Green Energy أن نظاما ضوئيا صغيرا بقدرة 2.25 كيلوواط تم تركيبه في غرداية حقق كفاءة سنوية تراوحت بين 72% و93%، رغم التحديات البيئية مثل درجات الحرارة العالية والغبار (Hamidat & Benyoucef, 2017). كما كشفت دراسة حديثة أن رمال الصحراء الجزائرية تحتوي على 96% من السيليكا (SiO₂)، ما يجعلها مادة خام مثالية لإنتاج السيليكون الشمسي محليا، وهو أحد المكوّنات الأساسية لصناعة الألواح الشمسية (Abada et al., 2023).
الطاقة الشمسية والذكاء الاصطناعي: تقاطع بيئي واعد
استخدام الطاقة الشمسية في تشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على الجانب التقني، بل له أثر بيئي واضح، فبدلا من الاعتماد على الفحم أو الغاز في توليد الكهرباء، يمكن اعتماد الشمس كمصدر طاقة صفرية الانبعاث، ما يساهم في خفض مباشر لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وتقليل التلوث الهوائي الحراري الناتج عن مراكز البيانات الكبيرة، وتحسين جودة الهواء وتقليل الآثار الصحية المرتبطة بالتلوث الصناعي. ووفقا لتقديرات من منظمة ClimateWorks Foundation، فإن استبدال مصادر الطاقة الأحفورية بطاقة شمسية متجددة لتشغيل الذكاء الاصطناعي قد يخفض الانبعاثات بنسبة تتراوح بين 30 و50% في المناطق ذات الإشعاع العالي.
مشاريع الربط الكهربائي: من الجنوب إلى الشمال
ورغم ما كان يعد في السابق تحديا كبيرا، أثبتت الجزائر في السنوات الأخيرة أنها تخطو بثبات نحو تحقيق تكامل وطني في شبكات نقل الطاقة. فقد أطلقت وزارة الطاقة والمناجم في أفريل 2024 مشروعا استراتيجيا ضخما يهدف إلى ربط مناطق الجنوب بالشبكة الوطنية للكهرباء، وذلك عبر إنشاء 33 محطة كهرباء وخطوط نقل عالي التوتر بقدرة 400 كيلوفولت، تمتد على نحو 5,000 كيلومتر من حاسي الرمل إلى تمنراست مرورًا بغرداية، المنيعة، أدرار وتيميمون. المشروع الذي تموله الدولة الجزائرية كليا، سيدخل شطره الأول الخدمة بحلول 2028، ويوصف بأنه “الجسر الكهربائي الوطني” الذي سيحول الجنوب إلى قطب إنتاج طاقوي مستدام، قادر على استيعاب المشاريع الشمسية الكبرى وربطها بمراكز الاستهلاك أو التصدير نحو أوروبا.
كما أطلقت مجموعة Sonelgaz مشروع ربط كهربائي بطول 700 كيلومتر بخطوط مزدوجة الجهد العالي (400 ك.ف) تربط حاسي الرمل بتيميمون والمنعة، وهو ما يعزز من قدرة البلاد على نقل الكهرباء من المناطق المشمسة إلى الشمال الصناعي والموانئ. وتدعم هذه المشاريع بنية تحتية مستقبلية لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، التي تتطلب تدفقا مستقرا وكبيرا للطاقة.
الجامعات الجزائرية: دعم أكاديمي للثورة الرقمية
إلى جانب البنية التحتية، تلعب الجامعات الجزائرية دورا متزايدا في تكوين الكفاءات ودعم البحث في الذكاء الاصطناعي. فقد افتتحت جامعة الجزائر 1 أول “بيت للذكاء الاصطناعي” سنة 2023، بينما تستضيف جامعة هواري بومدين (USTHB) مختبرات متقدمة في الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، وتنظم لقاءات علمية مثل ملتقى AID السنوي. كما وقعت المدرسة العليا للذكاء الاصطناعي (ENSIA) اتفاقية تعاون مع جامعة تسينغهوا الصينية لإنشاء أول مختبر جزائري-صيني في الذكاء الاصطناعي، مما يعزز التكوين المشترك ونقل التكنولوجيا.
انعكاسات عالمية محتملة: دور الجزائر في هندسة الطاقة الرقمية
في حال تمكنت الجزائر من تسخير صحرائها لتوليد الطاقة الشمسية وتشغيل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، ستكون لهذه الخطوة انعكاسات عالمية مهمة. فمن جهة، ستقلل الضغوط على شبكات الكهرباء الأوروبية والأمريكية التي تعاني أصلًا من اختناقات في تلبية احتياجات قطاع الذكاء الاصطناعي. ومن جهة أخرى، قد تتحول الجزائر إلى “بطارية ذكاء اصطناعي” للقارة الإفريقية، ما يمنحها مكانة استراتيجية في الاقتصاد الرقمي العالمي، ويؤسس لتحول هيكلي في دور الجنوب العالمي في تكنولوجيا المستقبل. كما أن تصدير الطاقة الشمسية أو “القدرة الحسابية الخضراء” (Green Compute Capacity) سيكون له تأثير مباشر في خفض البصمة الكربونية لصناعة التكنولوجيا.
تحديات واقعية في طريق التجسيد
رغم ما يتوفر للجزائر من إمكانات طاقوية وشمسية استثنائية، فإن تجسيد رؤية تحويل الصحراء إلى مصدر نظيف لتغذية الذكاء الاصطناعي يمر عبر جملة من التحديات المرحلية. من بين أبرز هذه التحديات، ضرورة تهيئة مناخ استثماري جاذب، يوفر الحوافز اللازمة للمستثمرين المحليين والدوليين المهتمين بالطاقات المتجددة وتكنولوجيا البيانات. ويعد تبسيط الإجراءات الإدارية، وضمان الشفافية، وتحديث الإطار القانوني للاستثمار الأخضر، من العوامل التي يمكن أن تسهم في تسريع وتيرة إنجاز المشاريع.
كما يبقى تطوير البحث العلمي التطبيقي أمرا محوريا، خاصة في مجالات تخزين الطاقة، كفاءة الألواح في الظروف الصحراوية، والتكامل بين الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. فالدفع بمراكز البحث الجامعية، ودعمها ماليا وبشريا، سيسمح بإنتاج حلول ملائمة للبيئة المحلية، وتعزيز السيادة التكنولوجية للبلاد.
إضافة إلى ذلك، فإن تعزيز القدرات البشرية وتكوين أجيال جديدة من المهندسين والتقنيين في اختصاصات دقيقة مثل إدارة مراكز البيانات، الطاقة الشمسية، والحوسبة الخضراء، يظل تحديًا ضروريًا لا يقل أهمية عن الجوانب التقنية. كما أن تقوية البنية الرقمية وتوفير آليات حماية سيبرانية موثوقة يعد شرطا أساسيا في ظل الطبيعة الاستراتيجية لمراكز الذكاء الاصطناعي.
بالمجمل، فإن هذه التحديات لا تشكل عوائق بقدر ما تمثل فرصا لصياغة نموذج جزائري متكامل يجمع بين الرؤية البيئية والابتكار الرقمي. ولدى الجزائر كل المقومات لتتحوّل من دولة طاقوية تقليدية إلى لاعب رئيسي في الاقتصاد الرقمي الأخضر، بشرط مواصلة الاستثمار في الإنسان والمؤسسات والمعرفة.
استثمار في المستقبل لا في اللحظة
إذا قررت الجزائر الاستثمار في شمسها لصالح الذكاء الاصطناعي، فإنها لا تكتفي باستثمار آنٍ في مشروع تقني أو طاقوي، بل تضع حجر الأساس لتحول بيئي واقتصادي وجيوستراتيجي طويل الأمد، فبتسخير الصحراء لتوليد الطاقة النظيفة التي تغذي الحوسبة الذكية، تصبح الجزائر طرفا فاعلا في صياغة معادلات الطاقة العالمية الجديدة، وتكسب موقعا رياديا في مسارات الاقتصاد الرقمي الأخضر، كما تفتح أمامها آفاقا لتصدير المعرفة والتكنولوجيا وليس فقط الكهرباء، وتحقق مكاسب بيئية محلية وعالمية في آن واحد. إن اختيار الجزائر لهذا المسار هو استثمار في الأجيال القادمة، وفي عالم أكثر استدامة وعدالة، تسهم فيه أفريقيا لا كمجال استهلاك بل كفاعل خلاق في قلب التحولات.
المراجع:
• Boudghene Stambouli, A., et al. (2012). Renewable and Sustainable Energy Reviews. DOI: https://doi.org/10.1016/j.rser.2012.02.005
• Hamidat, A., & Benyoucef, B. (2017). International Journal of Green Energy. DOI: https://doi.org/10.1080/19397038.2017.1321345
• Abada, M., et al. (2023). Studies of Engineering and Exact Sciences. رابط
• Strubell, E., et al. (2019). Energy and Policy Considerations for Deep Learning in NLP, UMass Amherst
• International Energy Agency (IEA). (2023). Data Centres and Energy Use
• جامعة الجزائر 1، USTHB، ENSIA – بيانات رسمية وتقارير صحفية، 2023–2024