تشهد مناطق الساحل السوري، وخاصة في اللاذقية وطرطوس وجبلة، تصعيدًا خطيرًا في المواجهات المسلحة، وسط اضطرابات غير مسبوقة تهدد بمزيد من التدهور الأمني والإنساني. فمع اندلاع الاشتباكات بين القوات الحكومية والمسلحين العلويين، تفاقمت الأوضاع، ما أدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى، ونزوح آلاف المدنيين بحثًا عن الأمان. هذا التصعيد يأتي في ظل تغير المشهد السياسي في سوريا بعد استلام أحمد الشراع مقاليد الحكم، ما يطرح تساؤلات حول مستقبل البلاد، لا سيما مع عودة المناطق العلوية، التي كانت تعدّ الحصن الأخير للنظام السابق، إلى دائرة الصراع المسلح.
الساحل السوري.. من معقل الأسد إلى ساحة صراع جديدة
لطالما كان الساحل السوري، معقلاً أساسيًا للنظام السابق بقيادة بشار الأسد، حيث اعتُبرت هذه المناطق القاعدة الشعبية الأبرز للنظام بسبب التركيبة الطائفية التي سادتها، والتي جعلت العلويين يرون في الأسد ضمانة لاستمرار وجودهم السياسي والأمني. ولكن مع سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 وتولي أحمد الشراع السلطة، بدأ المشهد في الساحل السوري يتغير جذريًا، حيث تحولت هذه المناطق من مراكز نفوذ قوية للنظام السابق إلى بؤر مقاومة لحكم الشراع، خاصة مع شعور بعض القوى العلوية بالتهميش والإقصاء في النظام الجديد.
بداية التوترات: احتجاجات وتحركات مسلحة
انطلقت هذه الأحداث في 6 مارس 2025، عندما شهدت مناطق بيت عانا ودالية بمحافظة اللاذقية تحركات مسلحة بقيادة مجموعات علوية ومتمردين بعثيين، احتجاجًا على السلطة الحاكمة الجديدة. ووفقًا للتقارير، فقد هاجمت هذه المجموعات مراكز أمنية، مما أدى إلى مقتل 15 عنصرًا من قوات الأمن السورية، لترد الحكومة بإرسال تعزيزات عسكرية من إدلب وحماة وحمص لاستعادة السيطرة على الوضع.
في مدينة طرطوس، دعا المجلس الإسلامي العلوي الأعلى إلى احتجاجات واسعة ضد الحكومة السورية المؤقتة، وهو ما قابله سكان جبلة من الطائفة السنية بمطالبات بتسليحهم لحماية أنفسهم من تصاعد العنف، مما زاد من تعقيد المشهد الأمني في المنطقة.
مجازر وتدهور إنساني في الساحل السوري
مع احتدام المواجهات، تصاعدت التقارير حول عمليات قتل جماعي ونزوح واسع. حيث أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن قوات الأمن السورية والمقاتلين الموالين للحكومة قتلوا أكثر من 300 مدني علوي في ريف اللاذقية منذ اندلاع الاشتباكات.
وفي تطور أكثر خطورة، فرّت مئات العائلات العلوية إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية، خوفًا من الأعمال الانتقامية. كما أكدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن الجماعات المسلحة الموالية للرئيس السابق بشار الأسد قتلت ما لا يقل عن 100 عنصر من جهاز الأمن العام السوري، إلى جانب 15 مدنيًا في جبلة.
استلام الشراع للحكم.. هل يؤجج الصراع الطائفي؟
منذ تسلّم أحمد الشراع الحكم بعد سقوط الأسد، دخلت سوريا مرحلة جديدة من إعادة الهيكلة السياسية والأمنية، حيث تم تفكيك العديد من المؤسسات الأمنية والعسكرية التابعة للنظام السابق. غير أن هذه التغييرات أثارت مخاوف بعض الأطراف، خاصة في المناطق العلوية، التي اعتبرت أن النظام الجديد يسعى إلى تصفية حسابات تاريخية بدلًا من تحقيق مصالحة وطنية.
ورغم أن حكومة الشراع قدمت وعودًا بإدماج جميع المكونات السورية في العملية السياسية، إلا أن الاحتجاجات العلوية الأخيرة تشير إلى حالة من القلق والرفض لدى بعض القوى التي كانت مستفيدة من النظام السابق، وهو ما يدفع البعض للتساؤل حول إمكانية اندلاع مواجهة أوسع بين الحكومة الجديدة وهذه القوى.
الثورة السورية.. من المطالبة بالإصلاح إلى حرب على النفوذ
ما يحدث اليوم في الساحل السوري هو امتداد طبيعي لمسار الثورة السورية التي انطلقت عام 2011، حيث تحولت الانتفاضة السلمية المطالبة بالإصلاح السياسي إلى حرب أهلية طاحنة، ثم إلى صراع على النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية. ومع سقوط النظام السابق، لم ينتهِ الصراع، بل دخل مرحلة جديدة من إعادة تشكيل موازين القوى، حيث تحاول كل جهة فرض رؤيتها الخاصة لمستقبل البلاد.
ورغم أن بعض المناطق السورية بدأت تشهد استقرارًا نسبيًا، إلا أن الساحل السوري يبدو أنه سيظل نقطة ساخنة في المرحلة المقبلة، خاصة مع التركيبة الطائفية المعقدة التي تحكمه، والمخاوف من سيناريوهات انتقامية قد تدفع البلاد إلى جولة جديدة من العنف.
اإلى أين يتجه الساحل السوري؟
تشير هذه التطورات إلى أن الساحل السوري قد يكون على أعتاب مرحلة جديدة من النزاع الطائفي والعسكري، ما ينذر بتداعيات خطيرة على مستقبل البلاد. فبينما تحاول الحكومة فرض سيطرتها بالقوة، يستمر نزيف الدم والنزوح الجماعي، مما يزيد من تعقيد المشهد السوري الذي لم يهدأ رغم مرور أكثر من عقد على اندلاع الأزمة.
ويبقى السؤال المطروح: هل ستنجح الجهود السياسية في نزع فتيل الأزمة، أم أن الساحل السوري سيغرق في دوامة عنف جديدة قد تعيد سوريا إلى نقطة الصفر؟
محمد الطيب