شهدت الكثير من اقتصاديات الدول في العالم تغيرات جذرية نتيجة التحول في الاقتصاد العالمي نحو اقتصاد السوق واجبارية العمل وفق أسس النظام العالمي الجديد ومؤسساته. وقد برزت هذه التغيرات بصفة أكثر في الدول النامية وخاصة منها الجزائر، فالاقتصاد الجزائري كغيره من الاقتصاديات عرف تطورات كثيرة منذ الاستقلال إلى وقتنا الحاضر وانتقل من مرحلة إلى أخرى حسب ما تمليه الظروف الداخلية المعقدة والخارجية المتقلبة ما جعله مزودا بمجموعة من الخصائص والمميزات.
فبعد الاستقلال تبنت الجزائر المبادئ الاشتراكية لوضع المبادئ والأسس العامة التي تحكم البلاد، وكان تبني هذا النظام راجعا لأسباب تاريخية متعلقة بدعم الدول الاشتراكية للقضية الجزائرية، وارتباط اسم الليبرالية بالدول الاستعمارية ومن بينها فرنسا. لكن ومع تقهقر هذا النظام الاشتراكي الذي كان يعتمد في تغطية عجزه على العائدات النفطية إثر الأزمة العالمية في نهاية الثمانينات والتي أدخلت الجزائر في دوامة أثرت على عدة قطاعات، جعلها تتخلى عن هذا النظام وسارت باتجاه النظام الرأسمالي، الذي انعكست مبادئه أيضا على قطاع الإعلام. ومن هذا المنطلق وبعد مرور 30 سنة على تبني مبادئ الليبرالية يتساءل المواطن الجزائري عن واقع السياسة الاقتصادية في الجزائر .. هل هي فعلا رأسمالية بمبادئ ليبرالية ؟ أم هي مجرد سياسة اقتصادية هجينة ؟ وكيف تنعكس هذه السياسة الاقتصادية على المؤسسات الإعلامية ؟
واقع السياسة الاقتصادية في الجزائر: بعد أحداث أكتوبر 1988 أقرت الجزائر تبني الفكر الرأسمالي اقتصاديا من خلال دستور فيفري 1989 ودخلت بذلك مرحلة جديدة من تاريخها الاقتصادي .. الآن وبعد مرور 30 سنة على هذا التحول يتساءل الجزائريين عن واقع السياسة الاقتصادية هل فعلا رأسمالية كما أقرها الدستور التعددي؟ أم مازلنا نسير وفق المبادئ الاشتراكية؟ أم هناك سياسة اقتصادية أخرى لا هي رأسمالية ولا هي اشتراكية ؟! كما هو معروف لدى الخاص والعام أن النظريات الاقتصادية تميز بسهولة بين الأنظمة الرأسمالية التنافسية وبين أنظمة التخطيط المركزي الاشتراكية، لكن عندما يتجاهل السياسيون مبادئ علم الاقتصاد فإنهم يحاولون الدمج بطريقة عشوائية بين النوعين، على نحو يوحي بأنهم لا يفهمون أيا منها. ولو ألقينا نظرة على الاقتصاد الجزائري لوجدنا سياسة اقتصادية عشوائية، والنموذج الاقتصادي المتبع هو نموذج هجين مختلط بين اشتراكي ورأسمالي، بين قطاع عام وقطاع خاص، بين هدف معلن وهو تحقيق رفاهية الشعب وتحقيق الاستقلال الاقتصادي, وهدف فعلي واقع خفي وهو تحقيق ثراء الأقلية المهيمنة بتشجيع من فرنسا والمنظمات النقدية والمالية الدولية، حيث أصبحنا سوقا كبيرة ومفتوحة لكل منتوجاتهم وخدماتهم، وبعبارة أخرى فهي التبعية التامة والانهيار التام لأمننا الغذائي، إنه نموذج اقتصادي مشوه حقا، نموذج أصبح يخدم مصالح الغرب ومصالح فئة محلية معينة ويهمش ويهدر طاقات بلد بأكمله. اذن فإن السياسة الاقتصادية الهجينة الجزائرية جمعت أسوأ ما في النظامين الاشتراكي والرأسمالي، فمن ناحية فإنها عادة ما تسلم الطبقات الفقيرة لجشع المستثمرين، الذين يفضلون في الغالب أنماط الإنتاج كثيفة الآلات ومنخفضة الأيدي العاملة، ومن ناحية أخرى فإنها تستبعد المواطنين من عملية اتخاذ القرارات المهمة، على افتراض أنها وكيلة عنهم في تحديد الأصوب والأنفع لهم.
انعكاسات السياسة الاقتصادية الهجينة على المؤسسات الإعلامية: إن النظام الاقتصادي الهجين نظام متوحش يعيق ويعرقل أي استثمار محلي دون إحداث أي تنمية فعلية مع تبعية اقتصادية تامة واحتكار مكتمل الأركان لكل ما يمكنه أن ينمي قدرات المؤسسات الخاصة من طرف السلطة، إضافة إلى تغييب المنافسة، والتي تشكل مخرجا للكثير من أزمات الاقتصاد الحر وتهذيبا للكثير من انحرافاته، حيث تضمن أن المستثمر لن يراوغ أو يخادع، لأنه يعلم أنه في منافسة مع آخرين معنيين مثله بتحقيق الربح، فإن الآفة الأساسية للاقتصادات المهجنة هي تخصيصها المشاريع لمستثمرين بعينهم بالأمر المباشر، على نحو يعفيهم من عبئ المنافسة مع غيرهم ويرفع عن كاهلهم عبئ تجويد أدائهم الاقتصادي. هذه العراقيل التي خلفها النموذج الاقتصادي الهجين جعل المؤسسات الاقتصادية (الصناعية والتجارية والخدماتية) تتأقلم مع الوضع وتضع ضمن سياساتها تقليص عملية الإنفاق على الإشهار مما انعكس سلبا على تمويل المؤسسات الإعلامية والصحفية وتركها تعيش وضعا صعبا ساهم في تغيير أولوياتها بعد أن أصبحت تواجه جملة من الإكراهات، ترجمتها ميدانيا المشاكل المتعلقة بالتمويل والإشهار والتكفّل بنفقات الإنتاج والتي مست بشكل أساس المؤّسسات الخاصّة من جرائد وقنوات فضائية بدأت تظهر عليها بوادر التضرّر من تبعات هذا النظام.
وحتى الوكالة الوطنية للنشر والإشهار ANEP احتكرت سوق الإشهار بالرغم من تحول الجزائر من الأحادية إلى التعددية الإعلامية، كما أن دعمها للمؤسسات الإعلامية الخاصة يقتصر فقط على المؤسسات الموالية للنظام وتمنعه على المؤسسات التي تخرج عن الصف. هذا من جانب اقتصادي، أما من جانب حرية المؤسسات في ممارسة نشاطها فهو الآخر تأثر كذلك بهذا النظام الهجين، بالرغم من أن التشريعات الإعلامية الجزائرية تكفل حق المؤسسات الإعلامية في ممارسة نشاطها دون تضييق أو تقييد لكن الممارسة شيء آخر، لأن الحكومة مازالت تعامل المؤسسات الإعلامية تعامل سلطوي وخير دليل على ذلك ما رأيناه في بداية الحراك الشعبي يوم 22 فيفري 2019، حيث قمعت السلطات الصحفيين ووسائل الإعلام لإجبارهم على تعتيم الأحداث الحاصلة في البلاد، ولم يواكب الإعلام الحراك الشعبي سوى عدد قليل من المؤسسات الإعلامية والتي تعرضت فيما بعد إلى عقوبات تمثلت في سحب الإشهار العمومي والذي استعملته السلطة ولسنوات طويلة كوسيلة لتأديب كل من يعارض سياستها.
إذن فإن السياسة الإعلامية هي الأخرى سياسة هجينة بين مبادئ ليبرالية ومبادئ اشتراكية جعلت للجزائر خطا افتتاحيا واحدا ورئيس تحرير واحد هو السلطة التنفيذية.
هل المؤسسات الإعلامية رأسمالية أم اشتراكية التعامل؟ “نحن لا نحصل على عشائنا بسبب كرم الجزار أو الخباز، ولكن بواقع سعيهم وراء مصالحهم الذاتية”. تلك الجملة البسيطة، التي وردت في أشهر كتب علم الاقتصاد “ثروة الأمم” المنشور سنة 1776 لصاحبه آدم سميث، هي الجوهر الحقيقي للفكرة الرأسمالية أي أنها تقوم على المنفعة الذاتية وتهدف إلى تحقيق المصالح الذاتية حتى ولو وصل ذلك إلى عدم تقدير لحاجة المجتمع أو احترام للمصلحة العامة.
كذلك وسائل الإعلام خصوصا السمعية البصرية منها، فهي تعرض برامجها مجانا للمشاهد لكن ليس كرما منها بل خدمة لمصالحها، لأنها تحقق الأرباح من الاشهارات والرعايات الاشهارية. ونستثني هنا المؤسسات العمومية التابعة للدولة لأنها مؤسسات ذات خدمة عمومية، أما الخواص فهدفها الربح ولو حتى على حساب المصلحة العامة. فكم من مرة عرضت قنوات فضائية برامج تعارض قيم المجتمع، والهدف من وراء ذلك جلب أكبر عدد ممكن من المشاهدات حتى تحقق الأرباح، وكلما ارتفعت المشاهدات ارتفع معها الاشهار والمداخيل. وتقوم الرأسمالية كذلك على المنافسة وهذا ما هو حاصل في وسائل الإعلام .. منافسة شرسة بين القنوات والصحف لجلب أكبر عدد من المتابعين.
لكن المؤسسات الإعلامية في الجزائر ليست رأسمالية 100% لأنها تعتمد على الإعانات الحكومية خاصة من وكالة ANEP وهذا ما يتنافى مع مبادئ الرأسمالية.
الدعم الحكومي .. نعمة أم نقمة ؟
وبالحديث عن الدعم الحكومي للمؤسسات الإعلامية فإن الدولة تدفع 30 % من تمويل المؤسسات الإعلامية حتى ولو كانت قطاعا خاص، وكما أشرنا سابقا فإن هذه السياسة تتعارض مع مبادئ الرأسمالية، لكن الدولة تلجأ لهذه السياسة لممارسة السلطة على وسائل الإعلام وتستعملها كوسيلة للضغط عليها كلما خرجت عن سياستها أو تَعارض خطها الافتتاحي مع سياسة الدولة، مثلما حدث ليومية الفجر التي لم تستفد من الاشهار لمدة 3 أشهر ما جعلها تعيش أزمة مالية كبيرة. وصحف أخرى منعت من الطبع كجريدة الشروق مثلا. وعلى النقيض من ذلك لم تستطع السلطة أن تمارس قمعها على يوميتي الخبر والوطن لأنهما قاما بإنشاء مطبعة خاصة بهما، وأفلتا من قبضة الحكومة. ويندرج هذا التعامل (الدعم الحكومي) من طرف الدولة مع المؤسسات الإعلامية ضمن التيار الاشتراكي، وطبق في الجزائر في مرحلة الأحادية الإعلامية أين تم تأسيس وكالة ANEP سنة 1976 وفقا للمبادئ والأسس الاشتراكية دعما للمؤسسات الإعلامية العمومية فلم تكن هناك مؤسسات خاصة، لكن مع تبني الجزائر للرأسمالية سمحت بفتح المجال للخواص وحافظت على سياسة الدعم حتى لا تخرج هذه المؤسسات عن خط الدولة الافتتاحي.
إذن فالسياسة الهجينة التي اتبعتها الجزائر انعكست بالسلب على جميع المجالات منها قطاع الإعلام ومؤسساته التي مازالت تعاني بسبب اللانموذج الاقتصادي والتسيير العشوائي لحد الآن.