مرَّ قطاع الإعلام في الجزائر منذ الاستقلال على عدة مراحل كان لها أثر وتأثير كبير على ما نلاحظه في وقتنا الراهن. فبحسب العديد من الملاحظين لتطور قطاع الإعلام في الجزائر، أجمعوا على أن المرحلة الأبرز والأهم جاءت في خضم العشرية السوداء التي صادفت انفتاحًا إعلاميًا وثقافيًا وسياسيًا غير مسبوق، والذي كان نتيجة حتمية لاحتواء الأزمة الأمنية والسياسية التي عاشتها البلاد في ظل الحكم الواحد، أي مرحلة الأفلان، ثم التعددية الحزبية ومجيء حزب الفيس.
فقد رأى رجال السياسة في تلك المرحلة أن السبيل الوحيد لتجاوز الكساد والجمود الحاصل على المستويين السياسي والإعلامي هو “الفتح” ومنح الرأي الآخر المجال والحيز المناسب لتنوير الرأي العام، أو كما يعرف عند الأكاديميين بهامش الحرية والابتكار فيما يخدم الصالح العام ويقطع الطريق أمام الدعاية الهدامة العابرة للقارات.
هذه المرحلة بالذات أفرزت لنا إعلاميين وصحافيين من نخبة كان لهم باع في تطوير الأداء المهني الإعلامي، وكذا دور كبير في دحض الدعاية الهدامة للتيار الإسلاموي المتطرف واللائكي المتطرف على حد سواء.
هنا يجب التنويه على أمر ضروري، وهو الجانب الإصلاحي في المجال الأكاديمي وحتى المهني في مجال الإعلام. أي أن الجامعات الجزائرية كانت ولادة، أو بعبارة أخرى تنجب إعلاميين من نخبة متشبعين بالروح الوطنية ولا يغريهم المكسب المادي ولا النفوذ المزيف، بل همهم الوحيد هو كيفية مكافحة أدوات التخريب، سواء كانت داخلية أو خارجية، عن طريق نقل المعلومة وتحليلها من جميع جوانبها لتنوير الرأي العام الذي كان متشوقًا لمعرفة حقيقة الأمور بمنظور جزائري بحت.
فأكثر ما ميز تلك الحقبة، على الرغم من ويلات الإرهاب الدموي والمخاطر التي تهدد العمل الصحفي، هو الجانب الإبداعي، حيث كنا نرى تنوعًا في المواد الإعلامية من تقارير صحفية، روبورتاجات، تحليلات سياسية وأمنية مرموقة، وغيرها من تلك المواد الإعلامية وحتى السينمائية التي ساهمت بشكل كبير في تنمية نسبة الوعي السياسي والمجتمعي لدى العامة، والذي بدوره ساهم في المحافظة على تلاحم الشعب الجزائري ضد كل المخاطر الأمنية والاجتماعية التقليدية.
الإعلام والمرحلة البوتفليقية:
فترة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة شهدت تقلبات كثيرة في قطاع الإعلام من ناحية الشكل والمضمون. ففي العشر سنوات الأولى، سجلنا ظهور قنوات خاصة كان الهدف من إنشائها هو إعطاء زخم إعلامي جديد ومواكبة التطور الإعلامي الحاصل على المستوى القاري والدولي، وكذلك تشجيع الصحفيين على إنشاء قنوات خاصة ومتخصصة في العديد من المجالات. نذكر منها قناة الشروق، النهار، الحياة، البلاد، الهداف، وغيرها من القنوات التي كانت تنشط بنظام “الأوف شور”، بمعنى آخر خاضعة لقوانين أجنبية، لأنه في تلك الفترة لم تكن هناك قوانين منظمة لنشاط الإعلام السمعي البصري، الأمر الذي جعل من عملية تمويلها وتنظيم عملها من الناحية المهنية والأخلاقية أمرًا يثير الكثير من التساؤلات.
من ناحية أخرى، أنتجت هذه الفترة نوعًا من الصحفيين الانتهازيين وغير الأكفاء الذين حاولوا الاستفادة قدر المستطاع من هذا الفتح غير المؤسس على قواعد صحيحة. والنتيجة أنَّنا شهدنا تمييعًا في النشاط الإعلامي والصحفي، حيث أصبح إعلامًا حسب الطلب لعمليات تهجم وشتم غير مبررة طالت العديد من رجالات الدولة. وخير مثال على ذلك ما حدث لرئيس الجمهورية الحالي السيد عبد المجيد تبون وحتى المسؤول السابق لجهاز الاستخبارات الفريق محمد مدين، وغيرهم من القادة العسكريين والسياسيين. هذا التعامل الصحفي غير المهني والمنافي لأخلاقيات المهنة جعل من النشاط الإعلامي أشبه بعملية ابتزاز وتشويه وقذف ضد رموز الدولة الجزائرية، خدمة لعصابات المال والأعمال، وحتى لأطراف أجنبية كان هدفها الوحيد هو تمييع المشهد الإعلامي في الجزائر، وكسر جبهة الصمود الأولى للدولة الجزائرية، “الإعلام”، الذي يعتبر في الوقت الراهن السلاح الفتاك الذي يمكن من خلاله خلق الفوضى الخلاقة داخل النطاق الجغرافي والسيبراني لأي دولة كانت.
هذا التقهقر والفشل الذريع الذي شهده المشهد الإعلامي في فترة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة أدى إلى عزوف الرأي العام الوطني عن مشاهدة هذه القنوات، خاصة في فترة الحراك الشعبي المبارك.
انعدام الثقة هذه كان المسؤول عنها هو تلك السياسة العرجاء التي جعلت إعلامنا غير مقروء وعديم التأثير في أوساط الشعب الجزائري، مما جعله فريسة سهلة للبروباغندا الهدامة التي تأتينا من دوائر خبيثة تبحث عن خراب البلاد.
وأبعد من ذلك، أصبحنا نرى معلومات حصرية تأتينا من نشطاء معروفين بولائهم لجهات أجنبية في بعض الدول الغربية.
الإعلام البديل والمواقع الإلكترونية:
الإعلام البديل، أو بعبارة أخرى الإعلام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح تحديًا كبيرًا للعديد من الدول وليس الجزائر فقط. لأن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت سلاحًا ذا حدين، خاصة بسبب الكم المعلوماتي الهائل المتداول داخل هذه الوسائط. فقد أصبح للفرد البسيط داخل المجتمع دور في جلب المعلومة ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تتمتع بمميزات لن تجدها في وسائل الاتصال التقليدية، مما جعل من عملية التحقق من المعلومات أمرًا صعبًا ومعقدًا، وهذا بطبيعة الحال يفتح المجال لانتشار بعض المعلومات المغلوطة مجهولة المصدر، مما قد يؤثر سلبًا على تماسك المجتمع الواحد. لذلك، فإن دور الصحفي أصبح من الآن فصاعدًا أكثر صعوبة في التحقق من المعلومات ذات الكم الهائل في هذه الوسائط الاجتماعية.
الإعلام الرقمي في الجزائر:
المواقع الإعلامية الإلكترونية الجزائرية، كغيرها من وسائل الإعلام الأخرى، تواجه تحديات كبيرة من ناحية التمويل والإبداع الفكري والمعرفي، وحتى من ناحية التكوين الأكاديمي لصحافيي الإعلام الرقمي. في هذا الصدد، يجب أن نركز على المحتوى الذي تبثه هذه المواقع الإلكترونية، التي تعد من أهم الوسائل الإعلامية تأثيرًا في الوقت الراهن، بسبب المواصفات التي منحتها تكنولوجيا الإعلام والاتصال من سرعة في تناول المواضيع المختلفة وطبيعة الجمهور المتلقي الذي يتميز بالانتقاء والتوتر الذي يفرض بدوره على الإعلاميين المتمرسين في المجال الرقمي مواكبة هذا التطور التقني ودراسة طبيعة الجمهور المتلقي والابتعاد عن أنماط الإعلام القديم.
وعليه، فالملاحظ أن إعلامنا الرقمي ما زال بعيدًا عن الهدف المنشود، وذلك بسبب عدم وجود تكوين متخصص في هذا المجال، لأن المعالجة الإعلامية الرقمية تختلف كثيرًا عن فنيات التحرير التقليدية.
أيضًا، لا يمكن استنساخ تجربة السمعي البصري في المواقع الإلكترونية، لأن القواعد تختلف، حيث إن طبيعة الجمهور المتلقي مختلفة تمامًا عما كان سابقًا.
علاوة على ذلك، تكمن القيمة المضافة في الإعلام الرقمي في القدرة التحليلية للمواضيع المطروحة على الساحة مع احترام عامل الوقت، أي الآنية، وليس بسرد يوميات أو أمور لا تمت بأي صلة بالإعلام كمهنة نبيلة.
ضف إلى ذلك، أن المهنية تتطلب الكثير والكثير من القراءة والمراجعة والتحقق في المعلومات المنشورة، وليس فقط إعادة نشر ما يمكن نشره على وسائل الإعلام الحكومية، مما يحد من تلك القيمة المضافة التحليلية التي يبحث عنها المتلقي الذي يريد محتوى جديدًا بعيدًا عن السرديات التي لا معنى لها.
ختامًا، الإعلام الرقمي يعد قيمة مضافة للدولة العصرية التي تسعى جاهدة لزيادة هيمنتها على الصعيد المحلي، الإقليمي، وحتى العالمي. وهذا الهدف لا يتسنى إلا بمراجعة فعلية للجانب التقني والمهني والتمويلي، وعدم الانصياع وراء المزايدات بشأن نسبة المقروئية الزائفة من أجل استقطاب إعلانات قد تكون مادتها ضارة اكثر من نافعة لهذا المجتمع الفتي والمتوق إلى العلم والمعرفة مشاهدة محتوى هادف وبنّاء.