وجهتنا كانت نحو العاصمة، أين التقينا الإعلامي والأديب غرمول أحد الأقــلام المبدعة والأسماء الأدبية الجزائرية البارزة في المشهد الأدبي، فدار بيننا حوار جميل أخذنا إلى الزمن الجميل فأردنا توثيقه على صفحات “الطريق نيوز” ومشاركته معكم أيها القرّاء الأوفياء.
حاورته: فاطمة عريف
الطريق نيوز: حدثنا عن بدايتك مع الإبداع، وهل كنت تتوقع أن تكون إعلاميا في المستقبل؟
الضيف: سأخبركم بحقيقة تشبه الخرافة، لقبوني بـ”الصحفي” عندما كنت صغيرا، أتذكر ذلك في أواخر سنوات الابتدائي وأولى سنوات المتوسط، وقد كانوا يعتبرونه شتيمة؛ ممَّا يجدونه عندي من أخبار ومعلومات كثيرة أنقلها لهم.
كسبت ذلك بقراءة الجرائد وحب الاستماع للمذياع، لكن في الوقت نفسه لم تكن أمنيتي أن أمتهن مهنة الصحافة؛ لأنِّي كنت أعتقد -في ذلك الوقت- أن الأدب هواية وليست مهنة. كان حلمي وطموحي أن أصبح كاتبا، وبعد أن قرأت لكبار الكُتَّاب الذين أصبحوا سفراء تغيرت نظرتي وأصبح حلمي أنا أيضا أن أصبح سفيرا وهذا في السن 15 على ما أعتقد.
الطريق نيوز: علاقتك مع الكتب هل هي علاقة مصالحة أم منافرة؟
الضيف: قصتي مع الكتب ذكّرني بها أحد الأصدقاء القدامى -أيام المتوسط-، حيث قال لي إنه أتى إلي في إحدى الأيام وأعطاني مبلغًا من المال لأشتري ملابس لي ولأخي، لكنّي قمت بشراء الكتب بكل المبلغ، ولم أترك منه دينارا واحدا لأشتري منه رغيف خبز، فتوجه للمنزل وأخبر أمه بأن صديقه عبد العزيز لا يملك ما يأكله فأحضر لي كسرة من البيت حتى أسدّ بها الجوع، هذا الموقف كان طريفًا مازلت لحد الآن أتذكره.
الطريق نيوز: مقر إقامتك الأصلي بسطيف، والآن أنت مستقر بالعاصمة، ما الذي دفعك للقدوم إليها؟
الضيف: العاصمة هي مدينة لتحقيق أحلامي وطموحاتي، ففيها كل وسائل الإعلام والعديد من الكتاب الجزائريين الكبار المشهورين في الساحة، فهي مدينة عريقة ومتفتحة، والذي جعلني أستمر فيها هو نيلي لجائزة وطنية كبرى في ذلك الوقت ووفرت لي مبلغًا محترمًا من المال.
الطريق نيوز: حدّثنا عن الجائزة التي كانت انطلاقا لنجاحك؟
ج: هي جائزة الأوبيرات بمناسبة الذكرى العشرين للاستقلال، علاوة على المال، كوَّنت لي علاقات مع أصدقاء جدد، أين تعرفت على عبد العالي رزاقي، أزرا جغمة، محمد صلاح حرز الله وأذكر بالخصوص سليمان جوادي، حيث كان عراب وجودي في العاصمة. لقد كان رجلًا طيِّبًا ورائعًا بأتمِّ معنى الكلمة، وجعلني أتعلم من أخطائي دون ندم. لقد كان صديقي الأعز ومزال لحد الآن وأكنُّ له المحبة والاحترام.
الطريق نيوز: نرجع بك قليلا للسنوات الخوالي، حدّثنا عن بداياتك مع الكتابة؟
الضيف: لقد بدأت النّشر وأنا في المتوسط، حينها نشرت أول خاطرة لي في جريدة النصر؛ وكان النشر في جريدة وطنية في تلك الفترة شيء عظيم بالنسبة لي، وأُعْجبَنه بي وقتها رئيس القسم الثقافي، فكيف لطفل صغير أن يصعد قسم التّحرير.
الطريق نيوز: أول محطة لك في وسائل الإعلام مع من كانت؟
ج: صنعت اسمي الأول في “جريدة النصر” -فترة السبعينات- ومجلة “آمال” حيث برزتا بروزا كبيرا في تلك الفترة لمدة طويلة، وكانت هناك أقلام مشجعة لكتاب آخرين عكس أدباء هذا العصر، كنت صغيرا بالنسبة لهم ولكن شجعوني وقاموا بنشر أعمالي واحتووني بكتاباتي، فعندما جئت للعاصمة كنت اسما بارزا في الساحة الأدبية، لكن بحكم الوسط الثقافي في ذلك الوقت كانا ممتازا للغاية هذا ما مكّنني بالتقاء كتاب ومثقفين كبار.
الطريق نيوز: من كان قدوتك في الكتابة في ذاك الوقت بعد احتكاكك بكبر الأدباء والمثقفين؟
الضيف: لم يكن لي أحد قدوة، فأنا متميز بكتاباتي ومتشبع بالثقافة الغربية بحكم أني أقرأ لكُتَّاب عالميين أمثال الكاتب الكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز.
الطريق نيوز: كما هو معلوم أن أباك كان إمامًا، وتأثير الأب على الابن يكون -عادة- قويًّا، غير أنك أغرقت قلمك في الكتابات الغربية ولم يكن في كتاباتك ما يتحدث عن الإسلام، حدثنا حول الموضوع أكثر؟
الضيف: لم يكن أبي من ذاك النوع الذي يفرض على الأبناء مسارا معيّنا، حتى أنه لم يفرض على أخواتي الحجاب الشرعي وهن في الثانوية، صحيح أنني تربيت على كتب دينية كانت موجودة في المكتبة في البيت ما جعلني متسلحا دينيا، وأبي أعطاني ثقافة دينية ولم يفرض على أي شيء، فنحن تربينا في بيئة دينية متفتحة.
قرأت كتبا دينية غير متزمتة، مثلا كتاب الشاطبي، رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وكتب المذاهب الإسلامية الأربعة.
حين قدمت للعاصمة -بعد سنوات وأنا بصدد تأدية الخدمة العسكرية- كنت متشبّعًا فكريّا وثقافيّا وملمًّا بكافة الجوانب الحياتية، والخدمة العسكرية لها جوانب إيجابية أكثر من السلبية، فهي فرصة لتتعرف على أناس من مناطق وولايات أخرى، وتتعلم فيها الانضباط. وأرجع لأقول إن العاصمة فرصة لإثبات الوجود وهي من أعطتني الفرصة لأنها تتميز بالتفتح عكس المدن الأخرى.
الطريق نيوز: هل يأخذك الحنين لمدينتك الأصل وكيف وجدت العاصمة بعيدا عنها؟
الضيف: مدينتي منبع للإلهام والإبداع الأدبي، فأنا شغفي الإبداعي مديني وحضاري. عندما تقرأ في روايتي الأولى “مقامة ليلية” والتي تدور في بعض الأجواء التي تشبه إلى حد بعيد قريتي بني فودة، لا تجدون فيها الريف بمعناه الحقيقي وإنما بالمعنى الحضاري.
أما العاصمة فهي مثل المرأة العاشقة لو وجدت فارسا ستمنحه كل شيء.
الطريق نيوز: لديك رواية تتحدث فيها على الحياة الريفية، هل أحداثها تسقَط على حياتك الطفولية؟
الضيف: لا، لم أتخيلها. فالمعطى الأدبي هو الذي جسدها، فأنا لا أعتبر مدينتي بني فودة ريفا؛ بل هي مدينة لها خصائص ريفية. فالآن هي تطورت والبعد الريفي غاب فيها. بينما رواياتي الأخرى تدور في المدن، ومن خلال هذا أعتبر نفسي إنسانا مدينيا على أنني كائن ريفي. والانتماء للريف هو انتماء رجل متحضر وليس بدائيًّا، وأعتقد أن هذا الفرق بيني وبين الكتاب الآخرين أنهم عندما يقيمون بالمدن إلا أن انتماءهم يبقى ببعدٍ ريفيٍّ، وأنا لا أحتقر ذلك البعد. أنا عشت طفولتي في الريف بالمفهوم الريفي ولم أكن راعيا، فنحن لا نملك الأغنام والأبقار في بيتنا، فأنا علاقتي بالريف كوني مديني علاقة سائح بسيطة ينبهر بالبيئة والمناظر الطبيعية ولكن لا يستطيع أن يعيشها.
جئت للعاصمة وأنا مسلح بالنظرة المدينية لذلك لم تبد لي العاصمة مشكلة واندمجت فيها بسرعة وعرفتها بسهولة.
الطريق نيوز: ما الذي منحته لك العاصمة؟
الضيف: منحتني مدينة العاصمة الوظيفة، السكن وزوجة والتي هي رفيقة دربي، نعمل في المجال نفسه.
الطريق نيوز: جل كتاباتك حول مدينة العاصمة كأنها مسقط رسك، ما السر وراء ذلك؟
الضيف: إني وجدت الاحترام والتفتح لأفكاري وحياتي التي أعيشها في هذه المدينة ما جعلني أكتب عنها، فقد عشت فيها حياة مليئة بالعشق والأمل والرغبات، كما أنّني ذقت فيها جانبا من المعاناة.
لا يوجد أصدقاء حقيقيون في هذه المدينة إلا القلة من المثقفين والذين يملكون وعيا ثقافيا كافيا لربط علاقات إنسانية خارج المصلحة، والعلاقات فيها معقدة، فهي تحتاج رجلا له إمكانيات مادية كبيرة للاستمرار في العيش فيها بكل أبعادها.
يوجد في العاصمة -كما ذكرتهم ذات مرة في حوار لجريدة النصر في حوار مع الصحفي محمد ستيلي- ميليشيات ثقافية وعلى الإنسان المثقف أن يكون مجندًا بإحدى هذه الميليشيات؛ وبما أنَّني كنتُ غير قابلٍ للتّجديد لم أستطع الانخراط فيها.
بالنسبة لي، كل مثقف صديق، كل نبيل صديق وكل كاتب صديق. أبغض في الإنسان صفتين “الكذب والخبث”، أما الباقي فبالنسبة لي أن المثقفين أغلبهم أناس طيبون واعيون وليسوا أشرارًا.
… يتبع